الـحــزن



من أينَ يأتي الحزنُ فجأةً ..؟

يهبطُ على الروحِ كما يهبطُ الليلُ علـى التائهِ في مفـازةٍ مُوحشة ، بكلِّ رهبةِ الأمكنةِ ، واتسـاعِ حَـدَقـاتِ الخــوفِ ، وانفتــاحِ شدقاتِ الهَـلعْ .

يهبطُ علـى النفـسِ كـإعصار .. من غيرِ تَنَبُّؤٍ مناخي مُسبَقْ .. من غيرِ إنذار .

من أينَ يأتي الحزنُ ؟

في فجرِ يومٍ لا يذكرهُ صبيٌ متشرد .. يومَ أخذتهُ امرأةٌ عابرةٌ من جــنـبِ شجرة .. قطعةً من اللحمِ الصغيرِ ملفوفةً في كرتونِ أحذية .. حَنَّت لصوتِ بكائهِ ، ورَقَّت لرجفاتهِ .. فاندفعت لجهةِ الصوتِ ، من حيثُ شَقَّ نحيبُه سكونَ المكان .

مِــن أينَ يأتي الحزنُ فجأةً ..؟

يهبطُ هكذا على الإنسانِ ، دونَ أن يعرفَ مصدَرَه ، أو والدَه . تجدهُ مكتملاً وَحده .. من غيرِ رعايةٍ كاملة .. ولا حياةٍ كاملة .. إنه يعرفُ ما يكفي للشجن .. ما يكفي ليكونَ جنيناً مكتملاً دونَ نَسبٍ.. دونَ سَبَبْ .

في يومٍ ملَبدٍ بالفرحِ .. تخشى فيهِ هطولَ أمطارٍ كي لا تَحزَنْ ..كي لا تـَـثـكَـل يومَـكَ كالعادة .. لأنه يومُ ميلادِكَ .. وتهطلُ الأمطار .. وتضيعُ ملامِحُ يومِكَ من على خارِطةِ الفرْحِ ..وتحزَنُ .. لأنكَ مارستَ التَّذكُّرَ لكلِّ شئٍ ، ولم يتذكركَ من ترغبُ في هذا اليومِ ... ولو بابتسامة ..!

للفرحِ أسبابٌ ملموسةٌ .. للفرحِ متعةُ النشوةِ .. وزهوةُ السعادةِ ..للفرحِ تُشرعُ الأبوابُ كلُّها .. ويأتلقُ المساء ..

لكن من أينَ يأتي الحزنُ ، ويخيمُ ، ثقيلَ الوطأةِ أمامكَ ، قابعاً .. أو متربعاً .. مسنداً خدَّهُ إلى يمينهِ ليحدِّقَ فيكَ دونَ أن يبرحَ المكان والزمان .. دونَ أن يبرحَ تساؤلاتِك .. دونَ أن يدَعَك وشأنك ؟

تنظرُ إليهِ وتتساءل : من هما والداه .. من أينَ أتى .. ما الأسبابُ التي خلقته .. ؟ وتفكرُ بالشجرةِ البعيدةِ .. ورهبةِ المكانِ .. والمرأةِ العابرة .. وحاجتِكِ إلى الابتسامةِ في يومِ ميلادِك ..!

لا يعرفُ الحزنُ لنفسِهِ مصدراً .. إنه يلوحُ قربَ الأشياءِ العابرة .. يتربصُ بنا في عتمةِ الأمزجة ... دونَ أن نفهمَ تماماً لماذا هوَ الآن ..

يلوحُ الحزنُ .. فتنجرفُ إليهِ روحُكَ .. وتنتشي تحتَ ظلِّ نغمةٍ من لحنٍ قديمٍ آتٍ من بَعيد .. وتتوهُ في نظرةٍ .. أو تسرحُ معَ تماوجِ نبرةٍ شجيةٍ لصوتٍ تفتقده ..

تنظرُ في أحداثِ اليومينِ الأخيرينِ .. يتجلَّى لكَ أنَّ الحزنَ كـائنٌ اجتماعي ..وتاريـخي .. وهــوَ شهمٌ جداً .. لا يُهاجمكَ من الخلفِ .. وإن كنتَ تظنُّ أنه يخونُكَ كثيراً ..

لكـنِ الحـزنُ رفـيقٌ جَيد .. !

الحزنُ دوَّامةٌ رمليةٌ .. كلما دارَ بكَ ، نفذتَ إلى عمقِ الدوَّامةِ .. حتى تحترفَ العمقَ .. ويطمِرَكَ الرملُ .. فتشعرَ بدفءٍ ما ..

وعندما يعتصرُ الحزنُ قلبَكَ مثلَ كَرْمةٍ يعتصرُها الصيفُ.. وتواتيكَ شهوتهُ العارمةُ كأحدِ رغباتِكِ السريالية و السِّـريةِ .. تصبحُ حزيناً جداً .. وتفكرُ في أنَّ الحزنَ ليسَ بشعورٍ مقيتٍ كما أرادوا أن يقنعوك .. إنه لذةُ البحثِ عمَّا ينقصُكَ حقاً ..

يُعيدُكَ – معَ التلاشي لساعاتِ الفرحِ في حاضرِك – إلى كلِّ لحظةٍ جميلةٍ في ذاكرتِكَ .. فتعيدُ بعثَ اللحظات .. أو الإمساك بلحظاتٍ هاربة ..

إنَّهُ يُشعِرُكَ بالوحدةِ .. وأنَّ هذا الكون الفسيح في وُسعِ تأمُّلاتِكَ ..

تدفعُكَ الوحدةُ إلى تذكُّرِ تلكَ اللحظات .. عندما لم تَكنْ وحدَك ..

تتأملُ .. وتكونُ فيلسوفاً صامتاً .. وملاكاً منفياً من السماءِ ، قرَّرَ من هولِ الفجيعةِ أن يترُكَ الذهولَ .. ويبقى حزيناً ..

ينشأُ الحزنُ عندما تتماسكُ معَ ذاتِكَ في مواجهةِ العالم .. وليسَ من "خضرٍ " ليهديكَ .. ولا " ذي القرنينِ " ليؤازرَكَ ..

عندما – بكلِّ أسفٍ - تُدرِكُ أن العمرَ يتصَــرَّمُ مِنــكَ تِباعاً .. وأنــكَ لا تستطيعُ وقفَ الزمن .

المــؤكدُ ليَ الآنَ ،

أن الحزنَ يجري مِنَ الإنسانِ كالدمِ .. ولكنه يحتاجُ إلى جرحٍ وموضعٍ ليسيلَ منه .

قـربَ شجرةٍ .. قربَ البيتِ الذي قضينا فيه الطفولةَ ..

ربما معَ لحنٍ قديم .. معَ هيامِ نظرة .. معَ شجوِ كلمة ..

عندَ بـوابةِ مقبـرة .. عندَ ذكـرى فُراق ..

معَ حوارٍ مُشبعٍ بالأسفِ .. أو لحظةٍ تغمُرُكَ بكلِّ ما في الحزنِ من غموض ..

عندما تُدركُ أنَّ الحياةَ لا تتسعُ للسعادةِ التي تأملُها .. فتخططُ أن تهبَ حياتَكَ كلَّها للعبور .. فقطِ العبور ..

ولكِنْ .. من أينَ يأتي الحزنُ فجأةً .. وبلا سَبب ؟

القاهرة – كانون الأول – 2004

تعليقات

‏قال غير معرف…
عزيزى محمد
أقولك من أين يأتى الحزن ..؟!
ياتى من البشر المحيطين .. نعم للأسف كل من يملك بيده إسعاد الآخر أو إتعاسه.. نعم .. تخيل نفسك لو انك تعيش فى هذه الدنيا وحيد .. لا حبيب ولا جليس ولا صديق وفى ولا أخ صدوق .. مش تبقى الدنيا جحيم حتى لو كنت تملك أموال الدنيا لكنك تفتقد للروح للمذاق للأحساس تفتقد لذاتك .. والتعبير عن الذات أجمل ما فى الكون .. والأجمل من كل هذا أن يكون لك حبيب وشريك لحياتك مخلص وأمين وصادق
وأخيرا
فإنى اتمنى لك ذلك
ولى أيضاً
منــى
‏قال Solara
... منى

لستُ بحاجةٍ للتخيل ، أنا فعلاً أعيش في عالمٍ يطمرني بالنسيانِ وشظف الوقت . ولهذا أكتبُ عن الحزن ، عن الفجيعة ، عن الوحدة ، عن مقاومة الموت التدريجي وطرق التخلص من الغبار المتراكم .

لكني أشكر لكِ مرورك وتمنياتك .

لكِ التحايا
‏قال ClOuDs
المــؤكدُ ليَ الآنَ ، أن الحزنَ يجري مِنَ الإنسانِ كالدمِ .. ولكنه يحتاجُ إلى جرحٍ وموضعٍ ليسيلَ منه

أظن أنك على صواب.. هذا هو الحزن بالفعل..!
‏قال غير معرف…
سلام
روعة روعة
‏قال Eve
الحزن كائنٌ طفيليّ، يلتصق بجسدك لا تعرف من أين. لكنّه يقتات منك ومن أفكارك وخلاياك.. يزداد تورّماً بمقدار ما تدمنه وتمعن فيه مناجاةً.

الحزن طائرٌ حبيسٌ في زوايا قلبك، ينتظر ساعة تفتح له الباب وتطلقه نحو نسمات الحريّة.

الحزن لا يأتي، لأنّه انعدام. هو انعدام الضّحكات في العيون. والعدم فراغ. والفراغ هكذا موجودٌ منذ الأزل

الحزن يكبر معك، يستحيل أسىً، ثمّ همّاً، ثمّ كمداً، ثمّ شجن، ثمّ يضاجع أتراحك، وينجب على وسادتك لوعات، ويخلّف في صوتك غصّات، ويلوّن وجهك بألوان الحسرة والحرقة والكآبة...

لكن ليس عجيباً، إزاء كلّ ذلك، أن يسلتذّ به المرء، ويغمّس في دمائه مداد الأقلام، لا سيّما إذا كان النّتاج سيكون على غرار نصّك المتميّز.

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأدبُ فعل تمنع وتمتعٍ ومقاومة